تفسير جزء عم : د. مساعد بن سليمان الطيار
بسم الله الرحمن الرحيم
أعود من جديد لمواصلة نشر تفسير سور "جزء عم" للدكتور مساعد بن سلمان الطيار
و هو -كما سبق أن وضحت- تفسير يسير الطرح، مبسّط العبارات، يسهل فهمه على القارئ حتى و إن لم يكن ذا علم متعمق باللغة
السورة الثانية في هذا الجزء هي : سورة النازعات
آياتها : 46
و فيما يلي تفسير الآيات من 1 إلى 14 :
1- قوله تعالى : {والنازعات غرقا} : يقسم ربنا بالملائكة التي تجذب أرواح الكفار من أجسادهم عند الموت جذباً شديداً ، كما يشد الرامي بالقوس السهم إلى آخر مداه
([1]).
2- قوله تعالى : {والناشطات نشطا} : ويقسم بالملائكة التي تسل روح المؤمن من جسمه بخفة وسهولة
([2]) .
3- قوله تعالى {والسابحات سبحا} : ويقسم بالملائكة التي تجوب آفاق السماء ، وتنزل إلى الأرض بأمر الله
([3]) .
4- قوله تعالى : {فالسابقات سبقا} : عطف السابقات على السابحات بالفاء ، ومعنى ذلك : أن السابقات من جنس السابحات ، وهي الملائكة التي يسبق بعضها بعضاً في تدبير أمر الله تعالى
([4]) .
5- قوله تعالى : {فالمدبرات امرا} : أجمع المفسرون على أنها الملائكة التي تنفذ ما أمر الله به من قضائه
([5]) ؛ كالملائكة الموكلون بأعمال العباد ، والموكلون بالنار ، والموكلون بالجنة ، وغيرهم . وجواب هذه الأقسام محذوف
([6]). ولما كان موضوع السورة في البعث ، جاز تقدير الجواب ـ "لتبعثن" ، ويكون المعنى والنازعات لتبعثن ، وهكذا .
6-7- قوله تعالى : {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة} ؛ أي لتبعثن يوم تهتز وتضطرب الأرض بسبب النفخة الأولى التي تتبعها النفخة الثانية
([7]).
8- قوله تعالى : {قلوب يومئذ واجفة} ؛ أي : قلوب خلق من خلقه يوم تقع هذه الأحداث ، خائفة
([8]) .
9- قوله تعالى : {أبصارها خشعة} ؛ أي : أبصار أصحابها ذليلة مما قد نزل بها من الخوف والرعب
([9]) .
10- قوله تعالى : {يقولون أئنّا لمردودون في الحافرة} ؛ أي : يقول أصحاب هذا القلوب الذين أنكروا البعث في الدنيا : أنرجعُ إلى الحياة بعد أن نموت وندفن تحت التراب؟
([10]) .
11- قوله تعالى : {أءذا كنا عظاما نخرة} ؛ أي : كيف نرجع إلى حالنا الأول ، وقد تحللت أجسامنا وصرنا عظاماً بالية فارغة
([11]) .
12- قوله تعالى : {قالوا تلك إذا كره خاسرة} ؛ أي : إن الرجعة إلى الحياة بعد الممات رجعة لا خير فيها ، بل فيها غبن لهم
([12]) .
13- قوله تعالى : {فإنما هي زجرة وحدة} ؛ أي : إن الأمر لا يحتاج إلى كبير عناء ، بل هي صيحة واحدة لا ثانية لها ينفخها إسرافيل في الصور ، فيقومون من قبورهم أحياء
([13]) .
14- قوله تعالى : {فإذا هم بالساهرة} ؛ أي : بعد أن يسمعوا الصيحة فإنهم سرعان ما سيكونون على الأرض
([14]) .
([1]) وقع خلاف في تفسير النازعات بين مفسري السلف على أقول : 1- الملائكة التي تجذب روح الكافر من أقاصي بدنه ، عن ابن مسعود من طريق مسروق ، وابن عباس من طريق العوفي وأبي صالح ، وعن مسروق ، وسعيد بن جبير .2- الموت ينزع النفوس ، وهو قول مجاهد من طرق ابن أبي نجيح .3- النجوم تنزع من أفق إلى أفق ، وهو قول الحسن من طريق أبي العوام ، وقتادة من طريق معمر.4- القسي تنزع بالسهم ، وهو قول عطاء .5- النفس حين تنزع ، وهو قول السدي من طريق سفيان .وإذا تأملت هذه الأقوال ، فإنك ستجدها جاءت على دلالة أسم فاعل ؛ أي أنها نازعة ، عدا قول السدي الذي حمل اسم الفاعل على المفعول ، وفيه نظر ؟كما أنها جعلت فعل النازعات من قبيل المتعدي ؛ كقوله تعالى : {تنزع الناس} ، سوى قول من قال هي النجوم ، فالفعل عنده لازم لا يحتاج إلى مفعول .وجاء اسم الفاعل ، ولم يذكر مفعوله لأن النزع هو المقصود في المقام ، كما جاء جمعاً لتأويله بالجماعات النازعات .وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى ، وسبب هذا الخلاف أن هذه وصاف لم يذكر موصوفها ، وهي صالحة لأن تحمل على كل ما قيل فيها – كما قال ابن جرير – وعليه فهي من قبيل المتواطئ ، غير أن الراجح من أقوال المفسرين ، أن النازعات وما بعدها من الأوصاف هي الملائكة ، وعلة ذلك أن المفسرين أجمعوا على أن المدبرات هي الملائكة ، ودلت الفاء في {فالمدبرات أمرا } على أنها متفرعة عن جملة : {فالسابقات سبقا} [النازعات :4] ، وهذه الجملة متفرعة عن جملة : {والسابحات سبحا} [النازعات : 3] ، وعليه فهذه
الأوصاف الثلاثة في الملائكة ، وكون الوصفين الأولين فيهما أيضاًَ أولى ؛ لاتحاد هذه الأوصاف في موصوف واحد . وتفريق الأوصاف على أجناس مختلفة ، مع هذا التأويل غير متمكن ، ولا دليل عليه ، والله أعلم . (انظر : التبيان في أقسام القرآن : 85) .([2]) اختلف السلف في النشاط على أقوال : 1- الملائكة ، وهو قول ابن عباس من رواية العوفي ، وهو الراجح كما سبق في النازعات . 2- الموت : وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح . وقد أدخل ابن جرير ابن عباس والسدي في من قال بهذا القول ، ولا يصح دخولها فيه ؛ لأن عبارتهما مجملة ، وقد صرح السدي بالسند
نفسه في تفسير "النازعات" أنها النفس ، والأولى أن يحمل هنا عليها ، فيكون قوله في الناشطات كقوله في النازعات . أما ابن عباس فقد ورد بالسند نفسه في تفسير النازعات ، وجعله تحت قول من قال هي الملائكة ، مع أن عبارته مجملة كذلك ، حيث قال : النازعات : حين تنزع نفسه ، والناشطات : حين تنشط نفسه ، وهذا مشكل ، والله أعلم .3- أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، وهو قول قتادة من طريق معمر .4- أنها الأوهاق ، وهي الحبل يرمي في أنشوطة ، فتؤخذ به الدابة أو الإنسان ، وهو قول عطاء.([3]) السبح يطلق على العوم في الماء والمرور في السماء ؛ كما قال تعالى : {كل في فلك يسبحون} [الأبنياء : 33] وقد اختلف السلف في المراد بالسابحات على أقوال : 1- الملائكة ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح . وقد ذكر ابن كثير أنه قول ابن مسعود ، وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح .2- أنها الموت يسبح في جسد الإنسان ، وهو قول مجاهد أيضاً ، وقد اختلف عليه ، ويظهر أن هذا القول هو اختياره ؛ لأنه مر بالأسانيد نفسها في تفسير النازعات والناشطات وأنها الموت، وكون هذا أشبه بما قبله عنده أظهر من كونه قال بغيره ما دام قد ورد عنه والله أعلم . وقد علق أبو جعفر الطبري على هاتين الروايتين بقوله : "هكذا وجدته في كتابي" ، وهذا يدل على استكشاله في الرواية التي عنده عن مجاهد ، والله أعلم .3- أنها النجوم تسبح في فلكها ، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد .4- أنها السفن تسبح في الماء ، وهو قول عطاء .([4]) وقع في السابقات اختلاف بين السلف على أقوال : 1- الملائكة : وهو قول مجاهد ، قال ابن كثير : "وروى عن علي ومسروق ومجاهد وابي صالح ولحسن البصري" . 2- الموت ، وهو قول مجاهد . (انظر التعليق السابق في السابحات على قولي مجاهد) . 3- الخيل ، وهو قول عطاء .4- النجوم ، وهو قول قتادة من رواية معمر وسعيد .([5]) الغريب أن قول قتادة في هذه الآية أنها الملائكة ، مع أن قوله في ما سبق من الأوصاف أنها النجوم ، ولم يذكر ابن جرير غير قول قتادة ، فلم يرد عنده فيها خلاف في هذه الآية ، كما وقع في سابقاتها، وقد حكى الإجماع السمعاني في تفسيره ، وابن القيم في التبيان في القرآن : 86 . وقال ابن عطية : "وأما المدبرات فلا أحفظ فيها خلافاً" ، وقال ابن كثير : "... هي الملائكة ... ولم يختلفوا في هذا".([6]) انظر : (تفسير الطبري ، ط :الحلبي : 30 : 32 ، والتباين في أقسام القرآن : 87) .([7]) عبر جمهور السلف عن الراجفة بأنها النفخة الأولى ، والرادفة : النفخة الثانية ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وعن الحسن منطريق أبي رجاء ، وعن قتادة من طريق سعيد ، وعن الضحاك من طريق عبيد المكتب . وعبر مجاهد وابن زيد عن الراجفة بأنها الأرض ترجف ، وهذا غير مخالف للأول ، لأنها ترجف بسبب النفخة ، كما في القول الأول ، وجعل مجاهد وقت الرادفة مقروناً بانشقاق السماء ، فقال : "هو قوله : {وإذ السماء انشقت } [الانشقاق : 1] فدكتا دكة واحدة " ؛ أي : الرادفة هي دك الأرض بالجبال . وهذا خلاف لما عليه أهل القول الأول ، وهم الجمهور ، إلا أن يقال إن هذا
يكون بعد النفخة الثانية فيلتئم قوله مع قولهم ، والله أعلم . أما ابن زيد فعبر عن الرادفة بالساعة ، وهذا غير مخالف ، لأن الساعة لا تقوم إلا بالنفخة الثانية ، والله أعلم . ([8]) هذا من عبارة الطبري في تفسير هذه الآية ، وكذا ورد تفسير "واجفة" عن السلف : ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي ، وقتادة من طريق سعيد ومعمر ، وابن زيد . وأفاد التنكير في "قلوب" : التكثير؛ أي : قلوب كثيرة خائفة في هذا اليوم .([9]) الضمير في ظاهر الكلام يعود إلى القلوب ، والمراد أصحاب القلوب ، فعبر عنهم بجزء منهم ، وهي القلوب ، التي هي محل الخوف والإذعان ، ثم يظهر بعد ذلك على الأبصار ، والله علم . ([10]) هذه الجملة مستأنفة للحديث عن أصحاب هذه القلوب الواجفة في الحياة الدنيا والاستفهام جاء على سبيل التعجب من حصول البعث الذي ينكره هؤلاء ، وجاء الفعل "يقولون" مضارعاً ؛ لإفادة تجدد هذا الحديث ، وحصوله منهم مرة بعد مرة . والحافرة عند العرب : رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه ، يقولون : رجع فلان إلى حافرته ؛ أي : إلى طريقه الذي جاء منه ؛ كأنه يتبع حفر قدميه في الأرض في حال رجوعه ، ومنه قول الشاعر : أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وطيشوقد ورد خلاف بين السلف في تفسير الحافرة على أقوال : 1- الحياة بعد الموت ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة وعطية العوفي ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، ومحمد بن قيس أو محمد بن كعب القرظي ، والسدي من طريق سفيان الثوري. 2- الأرض ،وهو قول مجاهد من طريق عبد الله بن أبي نجيح ، وقال : "الأرض ، نبعث خلقاً جديداً". وقوله في ما يظهر لا يخالف القول الأول إلا في العبارة ، والنتيجة واحدة في القولين ؛ لأن العود للحياة سيكون على الأرض ، وهذان القولان يناسبان المعنى اللغوي للحافرة ؛ لأنها يدلان على أن الإنسان يعود إلى ما كان عليه قبل موته ، والله أعلم . 3- النار ، وهو قول ابن زيد ، وقد جعل الحافرة اسماً للنار ، وهو مخالف لقول الجمهور ، ولو لم ينص على أنها من أسماء النار لاحتمل أن يكون تفسيره مقبولاً على أنه أراد التنبيه على
المآل الذي يصير إليه الكافر ، فيكون تفسيره على المعنى ، لا على مطابق اللفظ ، وسياق الآيات بعدها يضعف أن يكون المراد بالحافرة النار ؛ لقوله : {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} [النازعات : 13-14] على ما سيرد في تفسيرها ، والله أعلم .([11]) عبر ابن عباس من طريق العوفي عن ذلك بالفانية البالية ، وعبر قتادة من طريق سعيد بالبالية ، وعبر مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمرفوتة ، أي : المحطمة المدقوقة . وهذا من اختلاف التنوع الذي يكون التعبير فيه عن المعنى بألفاظ متقاربة . = وقد ورد في لفظ "نخرة" قراءتان : الأولى بلا ألف ، والثانية بألف على وزن فاعل ، ومعناهما واحد، وقيل باختلافهما
في المعنى . فالنخرة : البالية ، والناخرة ، المجوفة التي تنخر الريح في جوفها إذا مرت بها ، وتفسير السلف يدل على أن معناهما واحد ، إذ لم يرد عنهم التفريق بين لمعنيين ، والله أعلم .([12]) كذا قال قتادة من طريق سعيد ، وابن زيد .([13]) كذا جاء عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وابن زيد .([14]) ورد خلاف بين السلف في تفسير الساهرة على أقوال : 1- الأرض ، وهو قول ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي ، وعكرمة من طريق حصين وعمارة بن أبي حفصة ، والحسن من طريق أبي رجاء ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق
سعيد ومعمر ، وسعيد بن جبر من طريق عكرمة وأبي الهيثم ، والضحاك من طريق عبيد ، وابن زيد .2- اسم مكان معروف من الأرض ،وهو بالشام ، ورد ذلك عن عثمان بن أبي العاتكة وسفيان الثوري ، هذا القول يمكن أن يحتمل على أنهم أرادوا تعيين أرض المحشر ، وأنها جزء من الأرض، لا أن الساهرة علم مخصص بهذا المكان دون الأرض .وقال وهب بن منبه : هو جبل إلى جنب بيت المقدس ، وهذا إن كان أراد أن هذا الجبل بعينه هو الساهرة ، فإنه غير صحيح ، وهو مخالف لما عليه جمهور السلف ، وإن كان إنما ذكر جزءاً من أرض المحشر التي يحشر الناس إليها ، فيمكن أن يحتمل قوله على هذا التوجيه ، والله أعلم .3- وقال قتادة : في الساهرة : في جهنم . وهذا مخالف لما ورد عن الجمهور ، ولا يظهر موافقته لقولهم من أي وجه . والله أعلم .والقول الأول ، وهو قول جمهور السلف ، هو القول الراجح ، وهو المعروف من لغة العرب ، قال أمية بن أبي الصلت : وفيهــا لحـم ساهـرة وبحــر وما فاهـوا بـه أبـد مقيــم وإنما سميت الأرض بهذا الاسم ؛ لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم ، فسميت بذلك للملابسة ، والله أعلم . انظر : معاني القرآن للفراء ، وتفسير الطبري