وقال بعض العلماء : " اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَسْأَل الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْل أَنْ يَسْأَل الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ "[2].
لقد كان دَيدَنُ السلف الصالح في تربيتهم لأولادهم : بناء معتقدهم ، وتنمية مهاراتهم وقدراتهم ، وتحصينهم ضد الشهوات والشبهات ، وتأهيلهم للأعمال الجليلة ، والواجبات
الشرعية ، والسلوكيات الحميدة ، وقد وردت النصوص في تأكيد ذلك وبيانه ، جاء عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِبْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ : " أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى
هكذا كانوا ، وهكذا ينبغي لنا أن نكون مع أطفالنا في خير أيام الدنيا ؛ عشر ذي الحجة ، يقول صلى الله عليه وسلم : ( " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام
العشرة" قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : " ولا الجهاد فيسبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " )[4] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد )[5] .
قال الإمام ابن حجر : " الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْجُمُعَةِ فِي غَيْرِهِ لِاجْتِمَاعِ الْفَضْلَيْنِ فِيهِ "[6] .
فهل ترى من النَّجابة في شيء أن نُفوِّتَ أيام عظيمة كهذه الأيام !؟ دون أن ننقش من آثارها على أولادنا ، فيشب أحدهم وقد اعتاد القيام بشعائر الإسلام، وتمرَّس على واجباته
ومستحباته ، ونشأ وقد وقَرَ في قلبه عظمة ما نُعظِّمه ، وصارت أعظم الأشياء عنده ما نعتقده، متين المعتقد، سليم القلب، طاهر اللسان، شاباً صالحاً، وعضواً نافعاً في المجتمع .
إننا لنُحَقِّقَ هذه الخِصال مع أطفالنا في أعظم الأيام عند الله ، ينبغي أنتكون لنا خُطوات أسرية إيمانية مدروسة ، نستجلبُ بها رحمة الكريم المنَّان، ونؤكِّد فيها التقارب معهم ،
ونرسم أهدافاً سامية يسعى الجميع إلى تحقيقها في دنياه لعمارة أخرته وبنائها .
الخطوة الأولى ( لفت الانتباه ) :
وذلك بطباعة حديث الإمام البخاري ، وحديث الإمام أحمد ، وقول الإمام ابن حجررحمهم الله التي ذُكرت مطلع هذا المقال ، بصورة واضحة ، وتعليقها في غرفة الجلوس ، أو في
مكان بارز في البيت ؛ ليتمكن الجميع من قراءتها . . ولو أمكن إعلان جائزة مناسبة لمن يحفظها من أفراد الأسرة ، لكان هذا جميلاً .
الخطوة الثانية ( التهيئة النفسية ) :
حيث تجتمع الأسرة في حلقة حول الأب ، أو غيره من أفراد الأسرة ، لبيان عظمة هذه الأيام العشر ، فقد ذكرها الله تعالى في كتابه : ( وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ )[7] ، وجاءت الأحاديث
وأقوال السلف في فضلها [8] ، وأنها أعظم أيام الدنيا ، وقد حثَّ نبينا الكريم صلىالله عليه وسلم على العمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير، ثم فيها يوم عرفة، ويوم
يتم عرض هذا كله بأسلوب مشوِّق يتناسب مع الفئة العمرية لأفراد الأسرة ، وبمزيد من المراعاة لفُهُوم الأطفال فيها .
الخطوة الثالثة ( التعرف إلى أَعْمال العَشر ) :
دلَّت النصوص من الكتاب والسنَّة وأقوال أهل العلم على استحباب الإكثار من الأعمال الصالحة في هذه العشر ، ومن ذلك :
أولاً : أداء الصلوات المفروضة على وجهها الأكمل ، بأدائها على وقتها ، والتبكير لها ، وإتمام ركوعها وسجودها ، وتحقيق خشوعها ،
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا ) [10].
ثانياً :التقرب إلى الله بالإكثار من قراءة القرآن ، والصدقات ، وإعانة المحتاجين، والتوبة والاستغفار ، وصلاة النوافل ، وأداء السنن الرواتب ، وصلاة الضحى ، والوتر ، وقيام
الليل ، فقد جاء عن سعيد بن جبير قال: " لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر "[11] ، كناية عن القراءة والقيام .
ثالثاً : صيام ما تيسر من أيام هذه العشر ، فهو داخل في جنس الأعمال الصالحة ، وآكدها صيام يوم عرفة لغير الحاج ، قال صلى الله عليه وسلم :
رابعاً : الإكثار من التهليل ، والتكبير ، والتحميد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) [13]، كما أنه يستحب التكبير المطلق في البيت ،
والسوق ، والعمل ، إلا ما دلَّت النصوص على كراهة الذكر فيه ، قال تعالى : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) [14] ،
وصفته : ( الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد )[15] ، " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ أَيَّامُ الْعَشْرِ . . .
خامساً : ومن أعظم الأعمال في هذه العشر حج بيت الله الحرام ، وقصد بيته لأداء المناسك لمن تيسر له ، قال صلى الله عليه وسلم : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) [17].
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) [18] .
سادساً : ومن الأعمال الجليلة في هذه العشر المباركة ؛ ذبح الأضاحي تقربا لله ، فإنه :
( صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صِفَاحِهِما )[19] .
الخطوة الرابعة ( الجانب التطبيقي التربوي ) :
1-تشجيع الأطفال على حفظ الذكر المطلق في أيام العشر ، وكذا حفظ شيء من نصوص فضائل الأعمال فيها ، من خلال إعلان مسابقة لذلك وجوائز حسية ومعنوية ،فإن لذلك أثره
الكبير في صياغة عقلية الطفل واهتماماته في المستقبل ، قال إبراهيم بن أدهم : " قال لي أبي يا بني أطلب الحديث فكلما سمعت حديثا وحفظته فلك درهم فطلبت الحديث على هذا " [20].
2-اعتياد الصغير للعبادة سبب في محبتها وإلفتها ، فتكون سهلة ميسورة حينكِبَره ، كيف وهو يرى والديه جعلا أعمال العشر برامج تطبيقية عملية في حياتهم ، يذكِّرون بالصلاة
على وقتها ، ويُرَدِّدُون على مسمعه كلمات الأذان ، ويُرَطِّبُون أسماعه بترداد التكبير المطلق ، ويصطحبونه لإيصال الصدقات وإعانة المحتاجين ، يُعَرِّفونه بالسنن الرواتب وأجورها ،
ويُعوِّدونه صيام جزء – ولو يسير جداً – من اليوم .
3-الجلسات الحوارية الأسرية الهادئة لها أثرها البالغ في حياة الطفل ، ول وكانت إحداها في شرح معاني مفردات التهليل والتحميد والتكبير ، وشيء من دلالات أسماء الله وصفاته
، وبيان الحكمة من الصلاة ، والصوم ،وإعانة المحتاجين ، وأثر أيام العشر ، ويوم عرفة على العباد ، لكان في ذلك ترسيخ لمحبة الله سبحانه ، وتعظيمه ، وتوقيره ، وقدره حق
قدره ،وترسيخ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسبب في أن ترتبط نفس الطفل بمولاه سبحانه ، وتنمو روحه وتَسْلَمُ فِطرتَه ، ويبقى مستظلاً بظلها ،يعيش معناها في كِبَره شيئاً فشيئاً .
4- استثمار المزايا العظيمة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم للعمل الصالح في هذه الأيام العشر ، لتبيان أن الله جعلها أمام عبيده ؛ ليتقربوا إليه ، فتزيد حسناتهم ، وتحط سيئاتهم،
فيفوزوا بجنة عرضها السموات والأرض . كما أنها تدل على محبة الله لعباده المؤمنين ، وأن قَدْرَ الموَحِّد عند الله عظيماً ؛ فلا يجوز تخويفه ، أو رفع السلاح في وجهه ، أو التنابز
معه بالألقاب الفاحشة ، فقد نظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى الكعبة فقال: " ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك "[21] .
5-في الأضحية إحياء لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام، وفيها تذكير بقصَّة الفداء والتضحية والتقرب إلى الله ، وفيها هدي نبينا صلى الله عليه وسلميوم العيد ، وحين إلقاء الوالدين
على أطفالهم قصة نبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل ، حيث أصبح يوم فداء إسماعيل وإنقاذه من الذبح عيدًا للمسلمين يسمَّى بعيد الأضحى، يذبح فيه المسلمون الذبائح تقربًا إلى الله
، وتخليدًا لهذه الذكرى، تبقى هذه القصة مؤثرة في عقولهم ووجدانهم ، يعيشون حياة أبطالها ، يستمعون بشغفٍ إليها ، ويتقمَّصون ما فيها من حِكَم أو دلالات ،وينسجون لنفوسهم
خيالات واسعة بين أحداثها ، فيؤمنوا بما دلَّت عليه ، وتفتح لهم ملكة التفكير للتعبير والإبداع النافع .
أطفالنا، أكبادنا تمشي على الأرض ، أمانة في أعناقنا ، يتعلَّمون خلال حياتهم مَعَنا ما يُعينهم على القيام بأدوارهم المستقبلية ، تارة بالتقليد والمحاكاة ، وتارة بالمحاولة
والخطأ ، وتارة بما اعتادوا عليه ،فإنه من المعروف أن الطفل يتأثر بوالديه ، وهذا الأثر يبقى لفترة طويلة ،قد تمتد طوال عمره ، وقِيَم الوالدين والأخوة تنتقل للأطفال بصورة
مباشرة بحسب مجريات الحياة اليومية ومستجداتها ، ولذا فعلى الوالدين إشباع أطفالهم بمنظومة قيمية ، ومعرفية ، وروحانية ، ومهارية ؛
تجعلهم مؤمنين بربهم ، صالحين في أنفسهم ، بَنَّائين في مجتمعهم .