تفسير جزء عم : د. مساعد بن سليمان الطيار
بسم الله الرحمن الرحيم
أعود من جديد لمواصلة نشر تفسير سور "جزء عم" للدكتور مساعد بن سلمان الطيار
السورة الثالثة في هذا الجزء هي : سورة عبس
آياتها : 42
و فيما يلي تفسير الآيات من 1 إلى 16 :
نزلت سورة عبس بشأن عبد الله بن أم مكتوم ، قالت عائشة : أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : أرشدني ، وعنده من عظماء المشركين .
قال : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : أترى بما أقوله بأساً ؟ فيقول : لا ، ففي هذا أنزلت : {عبس وتولى} .
1-2- قوله تعالى : {عبس وتولى * إن جاءه الأعمى} ؛ أي : قطب وجهه وكلح ؛ لأجل أن جاءه الأعمى يسترشد عن الدين ، وأعرض وانشغل عنه بالغني الكافر رجاء أن يسلم
([1]) .
3- قوله تعالى : {وما يدريك لعله يزكى} ؛ أي : وما يعلمك ، لعل هذا الأعمى الذي عبست في وجهه يتطهر من ذنوبه بموعظتك ، فيسلم؟
([2]) .
4- قوله تعالى : {أو يذكر فتنفعه الذكرى} ؛ أي : فإن لم يقع منه تزك ، حصل الاتعاظ بالموعظة ، فتنفعه ولو بعد حين؟
([3]) .
5-6- قوله تعالى : {أما من استغنى * فأنت له تصدى} ؛ أما من عد نفسه غنياً عنك ، وعن الإيمان بك
([4]) ، فأنت تتعرض له .
7- قوله تعالى {وما عليك ألا يزكى} ؛ أي : أي شيء سيلحقك إذا لم يسلم هذا الكافر؟
([5]) .
8-10- قوله تعالى : {وأما من جاء يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى} ؛ أي : أما هذا الأعمى الذي أتى حيث الخطي إليك بنفسه ، وقد وفر في قلبه الخوف من الله ، فأنت تنشغل عنه بهذا الكافر المظنون إسلامه .
11- قوله تعالى : {كلا إنها تذكرة} ؛ أي : ما الأمر كما فعلت يا محمد عليه الصلاة والسلام – من أن تعبس في وجه من جاء يسعى . إن هذه الآيات موعظة وتذكرة لمن أراد أن يتذكر .
12- قوله تعالى : {فمن شاء ذكره} ؛ أي : فمن أراد من عباد الله – صادقاً في إرادته- أن يتعظ بالقرآن وآياته حصل له الاتعاظ
([6]) .
13- قوله تعالى : {في صحف مكرمة} ؛ أي : هذا القرآن مكتوب في صحف الملائكة ، وهي صحف شريفة رفيعة القدر
([7]) .
14- قوله تعالى : {مرفوعة مطهرة} ؛ أي : هي في مكان عال وقدر رفيع ؛ لأنها بأيدي الملائكة ، ولذا فإن الدنس لا يقربها .
15- قوله تعالى : {بأيدي سفرة} ؛ أي : هذه الصحف التي كتب بها القرآن بأيدي رسل الله من الملائكة الذين يؤدون عنه وحيه إلى عباده
([8]) .
16- قوله تعالى : {كرام برره} ؛ أي هؤلاء السفرة من الملائكة في مرتبة شريفة عند الله ، حيث خصهم بوحيه
([9]) ، وهم كثيرو الخير ، كثيرو الطاعة : {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}
([10]) [التحريم : 6] .
([1]) جاء الخطاب على صيغة الغيبة تلطفاً في عتاب النبي صلى الله عليه وسلم . وجاء ذكر عبد الله بن أم مكتوم بوصفه إشعاراً بعذره في عدم معرفته بانشغال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وترقيقاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لأجل علته ، وهي العمى ، حيث يحتاج من الرعاية ما لا يحتاجها غيره، والله أعلم . ([2]) عبر ابن زيد عن معنى "يزكى" فقال : يسلم ، وهذا فيه إشارة إلى أن ابن أم مكتوم لم يسلم بعد، وقد سبق بيان كلية تفسيرية لهذا اللفظ عند ابن زيد ، وهي أن التزكي في القرآن بمعنى الإسلام . ([3]) في ذكر التزكي وبعده التذكر ، وهو حصول أثر التذكير احتمالان : الأول : أن يكون الأمر من قبيل التخلية والتحلية ، فالتزكي : تطهير ، وهذا جانب التخلية ، وحصول التذكر في القلب تحلية . الثاني : أن يكون التزكي : كمال حصول الموعظة في القلب ، والتذكر : ما يحصل فيه القلب من يسيرها ، ويكون المعنى : إن لم يقع منه كمال تزك ، وقع منه يسير ينفعه في المستقبل ، والله أعلم .
([4]) يذكر بعض المفسرين أن معنى استغنى : استغنى بماله ، ولا يمنع أن يكون هذا الكافر غنياً بماله ، غير أن المناسب لسبب النزول أن يكون استغنى عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .([5]) يذكر بعض المفسرين في "ما" احتمالاً آخر ، وهو أن تكون نافية ، ويكون المعنى ، لا شيء عليك إذا لم يسلم هذا الكافر ، والأول أنسب لسياق العتاب ، والله أعلم . وفي كلا الاحتمالين إشارة لمهمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي أن عليه البلاغ ، أما الهداية فمن الله ، كما قال تعالى : {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة : 272] ، وقال : {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور : 54] .([6]) أعاد بعض المفسرين الضمير في "ذكره" إلى الله ، والمعنى : فمن شاء من العباد ذكر الله . غير أن سياق الآيات يدل على الأول ؛ لأن الحديث عن القرآن قبل هذه الآية وبعدها ، والله أعلم . ([7]) وقع خلاف في المراد بالصحف ، وهو مبني على الاختلاف في المراد بالسفرة ، على قولين :
الأول : أن السفرة الملائكة ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي ، وابن زيد ، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد والضحاك . الثاني : أن السفرة القراء ، قاله قتادة من طريق سعيد ، وذكر ابن كثير عن وهب بن منبه ، قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . والقول الأول أرجح ؛ لدلالة قوله صلى الله عليه وسلم : "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة..." فوصفهم بما ورد في هذه الآيات ، وحمله عليه أولى ، ثم إن وصف المؤمنين في القرآن جاء على صيغة "الأبرار" ، لا البررة ، مما يشعر أن المعني بهذا الوصف الملائكة .
([8]) عبر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وقتادة من طريق معمر ، عن السفرة بأنهم الكتبة، كما عبر قتادة من طريق سعيد بأنهم القراء ، وتأويل السفرة بالرسل يشمل هذه المعاني ، قال الإمام الطبري: "وأولى الأقوال في ذل بالصواب قول من قال : هم الملائكة الذين يسفرون بين الله ورسله بالوحي ... وإذا وجه التأويل إلى ما قلنا ، احتمل الوجه الذي قاله القائلون : هم الكتبة ، والذي قاله القائلون : هم القراء ؛ لأن الملائكة هي التي
تقرأ الكتب ، وتسفر بين الله وبين رسله " .([9]) الكريم : هو الشريف في جنسه ، وقد وصف الله الملائكة بهذا الوصف في قوله تعالى : {كراما كاتبين} [الانفطار : 11] .([10]) قال ابن كثير : "ومن هنا ينبغي لحامل القرآن أ، يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد" .